فن المقال بداية وتعريف
تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (20)
قبل كل شيء نحب أن نَنظر في تعريف هذا الفن، وسوف أعتمد على ما قاله الغربيون في هذا الصدد؛ إذ الرأي الشائع أن هذا الفن فن غربي، لم يَعرفه أجدادنا العرب، ومن ثَمَّ لم يُمارسه أحد منهم، كما أنه - في حدود علمي - لم يَحدث أن حاوَل أحدٌ من أولئك الأجداد وضْع تعريف له، بل إن كلمتي "مقالة" و"مقال"، لم تكونا تَعنيان ما تعنيانه الآن؛ إذ كانتا تستعملان أحيانًا بوصفهما صيغتين من صيغ المصدر للفعل: "قال يقول"؛ كما في النصوص التالية: ففي حديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَهْ يا عمر، لصاحب الحق مقال))، ((لا يَحقرنَّ أحدكم نفسه، أن يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، فيلقى الله تعالى، فيقول: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟
فيقول: خشية الناس يا رب، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى))، وعن ابن عباس: "فلم أَنشَب أن خرج عمر بن الخطاب، فلمَّا رأيته مُقبلاً، قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنَّ العشية مقالةً لم يَقلها منذ استُخْلِف، فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالةً قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي"، وعن أبي هريرة: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يحدثه: ((إنه لن يَبسط أحد ثوبه، حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول))، فبسَطت نَمِرةً علي، حتى إذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، جمَعتها إلى صدري، فما نسِيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء".
"أُتِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قتَل رجلاً، فأقاد وَلِي المقتول منه، فانطلق به وفي عُنقه نِسعة يجرها، فلما أدبرَ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القاتل والمقتول في النار))، فأتى رجلٌ الرجلَ، فقال له مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخلَّى عنه، قال إسماعيل بن سالم: فذكرت ذلك لحبيب بن أبي ثابت، فقال: حدثني ابن أَشْوَع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأله أن يعفو عنه، فأبى"، وفي بعض كتب التراث تعني هذه الكلمة الرأي والاعتقاد، ولا أدلَّ على ذلك من عنوان الكتاب المعروف بـ"مقالات الإسلاميين"؛ للأشعري، ولعل كلمة "المقالة" في النصين التاليين من كتاب "الحيوان"؛ للجاحظ، تعني هي أيضًا هذا المعنى، قال في التفرقة بين حكم الحواس وحكم العقل: "للأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجة، وقد علِمنا أن خزنة النار من الملائكة ليسوا بدون خزنة الجنة، وأن ملك الموت ليس بدون ملك السحاب، وإن أتانا بالغيث وجلْب الحياء، تراجع حيث إن هذا هو كلام اليهود، وإنما الاختلاف في المطيع والعاصي، وفي طبقات ذلك ومواضعه، والاختلاف بين أصحابنا، أنهم إذا استَووا في المعاصي، استووا في العقاب، وإذا استووا في الطاعة، استووا في الثواب، وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية، استووا في التفضُّل، هذا هو أصل المقالة، والقطب الذي تدور عليه الرَّحى"، وقال ردًّا على مَن طعَن في تحريم الخنزير: "فيقال لصاحب هذه المقالة: تحريم الأغذية إنما يكون من طريق العبادة والمِحنة، وليس أن جوهر شيء من المأكول، يوجب ذلك، وإنما قلنا: إنا وجدنا الله تعالى قد مسَخ عبادًا من عباده في صور الخنزير دون بقيَّة الأجناس، فعلِمنا أنه لم يفعل ذلك إلا لأمور اجتمَعت في الخنزير، فكان المسخ على صورته أبلغَ من التنكيل، لم نقل إلا هذا"، ومثله ما جاء في "النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة"؛ لابن تغري بردي عن المسعودي أنه قال: "سألت جماعةً من أقباط مصر بالصعيد وغيره من أهل الخبرة عن تفسير اسم فرعون، فلم يُخبروني عن معنى ذلك، ولا تحصَّل لي في لُغتهم، فيمكن - والله أعلم - أن هذا الاسم كان سمةً لملوك تلك الأعصار، وأن تلك اللغة تغيَّرت كتغيُّر الفهلوية، وهي الفارسية الأولى، إلى الفارسية الثانية، وكاليونانية إلى الرومية، وتغيُّر الحِمْيرية وغير ذلك من اللغات؛ انتهى كلام المسعودي، قلت: وليس بمستبعد هذه المقالة؛ لأن لسان العرب - وهو أشرف الألسن وبه نزل القرآن الكريم - قد تغيَّر الآن غالبه، وصارت العامة وغيرها تتكلَّم بكلام لو سمِعه بعض أعراب ذلك الزمان، لما فهِموه؛ لتغيُّر ألفاظه، وكذلك اللغة التركية، فإن لسان المُغل الآن لا يَعرفه جند زماننا هذا، ولا يتحدثون به، ولو سمعوه، لَما فهِموه، وأشياء كثيرة من هذا"، كذلك وردت كلمة "المقالة" في بعض النصوص بمعنى "الفصل أو الجزء من الفصل"؛ كما في النص التالي من "الكشكول"؛ لبهاء الدين العاملي في كلامه عن كتاب "الشفاء"؛ لابن سينا: "وقال الشيخ في "الشفاء" في الفصل السادس من المقالة التاسعة من كتاب "الحيوان": "إن امرأةً ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولدًا، قد نبتَت أسنانه وعاش"، وكذلك هذا النص من كتاب "الوافي بالوفيَات"؛ لصلاح الدين الصفدي لدن الكلام عن تآليف الفارابي المعلم الثاني: "ومن تصانيفه: آراء المدينة الفاضلة، وهو كتاب مليح، شرح كتاب المجسطي لبطلميوس، شرح كتاب البرهان لأرسطو، شرح المقالة الثانية والثامنة من كتاب الجدل لأرسطو، شرح كتاب المغالطة لأرسطو، شرح كتاب القياس لأرسطو، وهو الشرح الكبير..."، ولعل هذا الاستعمال هو أقرب الاستعمالات لمعنى "المقالة" الآن، أو فلنقل: إن هذا المعنى - عند علمائنا القدامى - هو المعنى المناظر للمقالة أو المقال كما نعرفهما اليوم، ويعزِّز هذا أن روَّاد المقالة في الأدب العربي الحديث، كانوا يسمونها ضمن ما يسمونها به: "الفصل".
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Literature_Language/0/57785/#ixzz2dqFnu8DR